فهذه الأمة التي نتشرف بالانتساب لها ، هي خير أمة أخرجت للناس ، و هي الأمة الوسط بين الأمم ) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( " البقرة : 143 " فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفو ، ولا إسراف ولا تقصير ، و بينما يتهاون النصارى في أمر النجاسات و يتباهى الواحد منهم بأنه أربعين سنة لا يغتسل ، نجد اليهود على العكس و النقيض ، فالواحد منهم إذا أصابت النجاسة ثوبه يقرضه بالمقرض ، و من رحمة الله بهذه الأمة رفع الآصال و الأغلال التي كانت من قبلنا ، و شرع لنا سبحانه شرعاً محكماً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , و من أعظم سمات هذه الشريعة المطهرة اليسر و التخفيف ورفع الحرج قال تعالى ) يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( " سورة البقرة : 185 " و قال ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ( " سورة الحج : 78 " و المتتبع لنصوص الشريعة و أحكامها يجد علاجاً ودواءاً لحالات الوسوسة التي تنتاب الكثيرين فمثلاً الثابت بيقين في العقائد و الأحكام لا يزحزحه الشك ولا الوسوسة ، فالإنسان يدخل في الإسلام بنطقه بالشهادتين باتفاق العلماء ثم يؤمر بالتزام أحكام الشرع التكليفية ، و قد يعرض له الشيطان بخواطر الشر و السوء فلا تضره بإذن الله ، و من ذلك أن البعض ذهب لرسول الله صلى الله عليه و سلم يقول له : إنا لنجد في أنفسنا ما لو خررنا من السماء إلى الأرض لكان أهون علينا من أن نتحدث به ، و قال البعض لأن أكون حممه ، و ذلك يوضح مبلغ المعاناة و حرصهم على معاني الإيمان ، و عدم إفصاحهم عن الوساوس التي انتابت نفوسهم و مجاهدتهم في رد و دفع هذه الخواطر السيئة ، فلما سمع النبي صلى الله عليه و سلم ذلك قال " أو قد وجدتموه ، ذلك صريح الإيمان " ، و قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " و قال أيضاً " قل آمنت بالله " و قال ابن عباس رضى الله عنهما لمن وجد مثل ذلك قل " قل هو الأول و الأخر و الظاهر و الباطن وهو بكل شئ عليم " و كأن الإنسان مع سيره في طريق الإيمان لابد وأن يجد مثل هذه الخواطر أو الوساوس فالشيطان قطع عهداً على نفسه ليتخذن من العباد نصيباً مفروضاً ، وهو قد فرغ من اليهود و النصارى بإيقاعهم في الكفر و لذلك لا يوسوس لهم أما بالنسبة للمسلم إذا هم بطاعة ربه أجلب عليه الشيطان بخيله ورجله ، فيحدث معه مثل هذه الصورة التي عرضت للأفاضل ، و تخوفوا على أنفسهم بسببها ، إلا أنهم لم يذكروا هذه الخواطر لأحد و لم يعتبروها مشاعر و أحاسيس صادقة أو وجدنات فياضة كما يعبر بعض من لا خلاق له ولا دين عنده ، و قد أمر النبي صلى الله عليه و سلم من وجد ذلك أن يقول " آمنت بالله " و بين أن ذلك صريح الإيمان ، فهذه الوساوس لا تضر الإنسان طالما اعتصم بحبل الله المتين و بذكره الحكيم ) وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( " سورة آل عمران : 101 " و قال تعالى ) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( " سورة الأعراف : 201 " يتذكرون أمره و نهيه ووعده ووعيده سبحانه ، فيحدث لهم ذلك تبصرة فعلى العبد أن يكثر من التعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأن ينشغل بذكر الله ، فقد قالوا : نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ، فيحافظ على تلاوة القرآن الكريم و الأذكار الموظفة ، كأذكار الشروق و الغروب و النوم ، ولا يعقد مناظرات مع الشيطان فكلما فرغ من شبهة أجلب عليه بشبهة أخرى حتى يرهق عقله ، فينصرف ولو إلى أمر مباح ، و يعلم الخواطر قد عرضت لمن هو أفضل منه ، و لن تضره بإذن الله إذا قال آمنت بالله ، فذلك صريح الإيمان ، و الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم . فإذا انتقلنا إلى دائرة الأحكام وجدنا المسألة لا تختلف فلا عنت ولا مشقة ولا حرج ولا مبرر للاسترسال في الوساوس التي تنتاب البعض ، و من ذلك مثلاً أن الثابت بيقين لا يزحزحه الشك ، فلو تيقن الإنسان الطهارة و شك في الحدث ، فيطرح الشك ولا يلتفت له و يبنى على اليقين وهو الطهارة ، أما إذا تيقن الحدث و شك في الطهارة ، فعليه أن يجدد طهارته . و يعفى عن يسير النجاسة التي يشق التحرز منها ، كما يحدث في الاستجمار بالأحجار ، فقد يتبقى أثر النجاسة فلا يلتفت له ولا يعول عليه ، و كذلك المرآة إذا أصاب ثوبها دماء الحيض فإنها تغسله ، و قد يتبقى أثر الدم بالثوب فيعفى عنه ولا حرج في الصلاة به ، و لما قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف تصنع النساء بذيولهن ، قال : يرخينه شبراً ، قيل : إذاً تنكشف سوقهن ، قال : يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه ، و قد تمر المرآة على نجاسة و تصيب ثوبها إلا أن ما بعده يطهر ما قبله ، فلا داعي للوسوسة في مثل ذلك ، و ليس العلاج في تقصير ثوب المرآة ، ولا يجوز الاعتراض على من أطالت جلبابها على النحو المذكور ، فالمرآة مأمورة بالصيانة و التحفظ و التحجب و التستر ، وإذا ورد شرع الله بطل نهر معقل فهل من يعقل . و كذلك يقولون العبرة بالظهور لا بالشعور ، فالإحساس بالاحتلام لا يترتب عليه عمل حتى يرى أثر المنى ، فإن لم يظهر أثر للمني فلا اغتسال عليه ، و المرآة قد تشعر بخروج دماء الحيض ولا تمتنع عن الصلاة و الصيام ولا تأخذ حكم الحائض حتى يظهر دم الحيض . و قد يسمع الإنسان أصواتاً بالبطن فلا ينصرف من الصلاة ، ولا يجب عليه تجديد الوضوء حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً يستيقن به خروج شئ من السبيلين ( القبل و الدبر ) و قد لا يكتفي البعض بالاستنجاء بالماء بعد التبول و يظل يمشي و يتنحنح .... و يمكث على ذلك وقتاً طويلاً قد يفوت به وقت الصلاة ، ولا داعي لمثل ذلك ، فالبول كاللبن في الضرع إن حلبته در وإن تركته قر ، فبعد الاستنجاء ينقطع البول مباشرة عند الشخص السليم ، فلو استمر البول بعد ذلك دل الأمر على حالة مرضية و حينئذ يعامل معاملة أهل الأعذار ، فأصحاب سلس البول و المستحاضة ( التي ينقطع عنها الدم ) وأصحاب انفلات الريح و المذاء يتوضئون بعد دخول الوقت و يصلون به الفريضة و ما شاءوا من النوافل حتى دخول وقت الفريضة الثانية ، مع وضع حفاظ يمنع تلوث الملابس متى استطاع ، ولا حرج على هذه الأصناف ، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، وفى الحديث " هلك المتنطعون ، و جاء " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع و الديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " حسن رواه أبو داود و غيره . و قد نهانا سبحانه عن الغلو في الدين فقال ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ( " سورة المائدة : 77 " . و يكره الإسراف في استخدام الماء ولو كنت على نهر جار ، و قد كان الإمام أحمد – رحمه الله – إذا أراد أن يتوضأ طلب من بعض إخوانه أن يستره ، كراهية أن يساء به الظن لقلة استخدامه الماء ، و كانوا يتوضئون بالمد و يغتسلون بالصاع ، وأقل الغسل مرة و أكثره ثلاث ، فمن زاد على ذلك فقد أساء و تعدى و ظلم ، و بعض أهل الوسوسة لا يكتفي بذلك بل قد يستخدم برميلاً للمياه و يظل يتوضأ ربع ساعة أو أكثر و يفتح صنبور المياه على يديه ، بل ينغمس في البحر و ما شابهه و يشك هل أصابه الماء أم لا و يصيبه الوسواس ، فلعل الماء لم يصل لهذه البقعة أو لتلك ، الأمر الذي يدل على أنه قد صار مغلوباً على عقله مقهوراً على فعله ، فإذا وصل إلى هذه الحالة رفع عنه قلم التكليف وفي الحديث " رفع القلم عن ثلاث : المجنون حتى يفيق و النائم حتى يستيقظ و الصبي حتى يبلغ " رواه أحمد و أبو داود . و قد شاهدت من غلب عليه الوسواس في طلاق امرأته و كان يحبها بشدة و يتخوف فراقها ، و يكثر السؤال عن حديثه مع نفسه و هل وقع به الطلاق أم لا ، كما شاهدت أيضاً رجلاً ظل يمسح الملعقة المغسولة ثلاثاً و ثلاثين مرة و قد شد انتباهى بطاعة الملعقة ثم قيامه بمسحها المرة تلو الأخرى ، كما سمعنا و شاهدنا كثيراً حالات الوسوسة في الطهارة و الوضوء ، و لن نعدم التناقض الصارخ عند بعض هؤلاء فبينما تصف بعض السلوكيات بأن مؤداها الحيطة و الحذر أو توهم التقى و الورع تجد التفريط في الواجبات وارتكاب المحرمات التي لا يختلف عليها أحد ، كحالة أهل الكوفة قتلوا الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضى الله عنه . ثم يذهبون يسألون عن دم البعوض و هل هو نجس أم لا .