.......منذ صغره ,ورفيقه البحر , منذ نعومة أظفاره,منذ مولده يناجي البحر، أهزوجة دربه، مؤنسه الدائم، يستيقظ مع صوت أمواجه، وينام مع صوتها، ويحلم بصوتها، ساعته الصادقة البحر، يحب البحر بكل ما في أحشائه، بكل ما يلده هذا البحر على ذاك الشاطئ، فاق يوماً من نومه في ذلك الكوخ، يتساءل من؟ وكيف أتيت؟
كان عمره في ذلك الحين (15)عاماً، استيقظ من حلم مزعج، يقول له:"عد إلى هناك،عد إلى هناك" ويكررها مراراً وتكراراً، ذلك الصوت الذي جاءه في المنام، كان يحمل في باطنه القوة والضعف في آن واحد، ولكن كان يلفحه دفء البحر، أخذ الخيال يسرح غي مخيلته دون ملل، تعصفه الأفكار وتعصره الذكريات، أي ذكريات؟!
إنه لا يحمل ذكريات إلا مع البحر وجيران البحر وضوء القمر والنجوم،وسطوع الشمس حيناً وغروبها على مرآة البحر حيناً أخر، ذكريات مع رجل مات منذ أمد، كان يناديه أبتي، رغم أنه يعرف أنه ليس بأبيه، كان دائماً يسأله:من أنا؟ من أهلي؟ من ومن وكيف ومتى وأين؟ لكن يسأل من يجهل الإجابة، فتقف الإجابة مختبئة في باطن البحر،لا يعلمها إلا رب الناس ثم ذلك البحر، والآن لا يجد حتى أن يخاطب من يجهل الإجابة، إنه مات منذ سبع سنين غرقاً في باطن البحر، وهو يصطاد ما يحب من ذلك البحر. فقام فزعاً من فراشه، يركض ركضاً نحو البحر، يصرخ فيبتلع البحر صوته المخنوق فيزيده إختناقاً، إنه يعرف ولا يجيب، يقف صامتاً ذلك البحر يقول: أين موطني يا بحر؟ فجأة تذكر كلمات الذي احتضنه ، عندما سأله ذات مرة عن نفسه، فقال ذلك الرجل مجيبا ً: " كل ما أستطيع قوله أنك ولا شك ابن تلك النكبة التي أماتت الكثيرين، وشردت الأخرين "، ولكنني يا بحر لا أعرف ما تلك النكبة التي قال عنها والدي، أخفى عني السر، على الأقل لو أضاف شيئاً لكلامه عن تلك النكبة لكنت عرفت وطني، وطني ياه يا بحر............
أنت وطني، هل تعرف يا بحر؟؟ أتمنى عندما أموت أن يدفنوني فيك يا بحر ، وعليك أنت حينها أن توصلني إلى شاطئ وطني ، أنت يا بحر ، هل تعاهدني يا بحر؟؟ لا تنس إنه وعد.
وعلى حين غرة ، أخذه الموج دون سابق إنذار ، وكأنه استجاب ليفيّ بذلك الوعد، ابتلعه لا بل احتضنه ليوصله إلى بر الأمان، ومنذ تلك اللحظة لا أعلم عن أخباره شيئاً، ولكنني واثقة تمام الثقة أن البحر أوصله إلى أرض الوطن.