المصدر: كاتب ومحقق المقال غير معروف:
قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" (الإسراء1)،
قال تعالى: "ونجّيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (الأنبياء 71)،
قال تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" (البقرة 127)
قال تعالى: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم" (إبراهيم 37).
عن أَبَي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ "أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ"، قَالَ: قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى"، قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ" (صحيح البخاري 3115).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ" (سنن ابن ماجه 1398).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثَةً سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" (سنن النسائي 686).
كما هو واضح من هذا الحديث الصحيح أنّ بناء المسجد الأقصى تمّ بعد بناء المسجد الحرام بأربعين عاماً، فإذا حدّدنا زمن بناء المسجد الحرام فإنّنا نستطيع أنْ نحدّد زمن بناء المسجد الأقصى، فمن الذي بنى المسجد الحرام؟ ومتى بُنِي المسجد الحرام؟
هناك روايات تؤكّد أنّ أول من بنى المسجد الحرام هو آدم عليه السلام، وعليه، فإنّ أول بناءٍ كان للمسجد الأقصى على عهد آدم عليه السلام، أو في عهد أبنائه. قال ابن حجر: "فقد روينا أنّ أول من بنى الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أنْ يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس"، وقال ابن حجر: "وقد وجدت ما يشهد ويؤيّد قول من قال: إنّ آدم هو الذي أسّس كلاً من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب "التيجان": أنّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأنْ يبنيه، فبناه ونسك فيه". وهذا يعني أنّ المسجد الأقصى بُنِي قبل إبراهيم وداود وسليمان عليهم السلام، وهذا يعني أنّ المسجد الأقصى كان أول بناءٍ بُنِي في كلّ أرض الشام بشكلٍ عام، وكان أول بناء بُنِي على أرض القدس الشريف بشكلٍ خاص، وهذا يعني أنّ المسجد الأقصى بُنِي في القدس الشريف قبل وجود أي كنيسٍ أو كنيسة أو مسجد فيها، وهذا يعني أنّ المسجد الأقصى كان قبل وجود تاريخ بني إسرائيل بشكلٍ عام، وكان قبل وجود قبيلة يهودا، وتاريخ اليهود بشكلٍ خاص، وهذا يعني أنّ المستحيل في تفكير كلّ عاقل أنْ يكون هناك بناء حجر أو بناء كان تحت المسجد الأقصى.
* * *
قد يظنّ ظانّ أنّ أول من بنى المسجد الحرام هو نبي الله إبراهيم عليه السلام، قد يفهم أنّ المسجد الأقصى بُنِي على عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، نقف على بطلان هذا الظنّ، بل على العكس نجد أنّ الأدلة تؤكّد أنّ نبي الله إبراهيم عليه السلام، كان بعد بناء المسجد الحرام، أيْ بعد بناء المسجد الأقصى، وأنّ ما قام به نبي الله إبراهيم عليه السلام هو رفع قواعد المسجد الحرام التي كانت موجودة من قبْل، بمعنى أنّه لم يكنْ أوّل من بنى المسجد الحرام وبمعنى آخر أنّه لم يكنْ هو الذي بنى المسجد الأقصى.
* * *
فواضح أنّ الرواية تعود وتؤكّد على مصطلح "المسجد"، فجائز أنْ يكون هو "مسجد" آخر غير المسجد الأقصى، وجائز أنْ يكون هو المسجد الأقصى المبارك، ووفق الاحتمال الثاني فهذا يعني أنّ نبي الله سليمان عليه السلام قام ببناء وتوسعة للمسجد الأقصى الذي كان قائماً منذ آدم عليه السلام، ولم يقمْ نبي الله سليمان عليه السلام ببناء تأسيسيّ للمسجد الأقصى المبارك، فكما أنّ إبراهيم عليه السلام قام برفع قواعد المسجد الحرام بعد أنْ كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام، فإنّ سليمان عليه السلام قام بتجديد وتوسعة للمسجد الأقصى بعد أنْ كان موجوداً أصلاً منذ آدم عليه السلام.
فهذه النقولات التي اقتبسناها من الحديث الصحيح، تدلّ على أنّ البيت الحرام كان أساسه موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام، وأنّ الله أمر إبراهيم برفع أساسه وتهيئته للعبادة.
فمن الذي وضع أساس البيت الحرام؟
هناك روايات كثيرة، تتعاضد على أنّ الذي وضع أساس البيت الحرام، آدم عليه السلام (الفتح 6/406 و409)
وعلى هذا فإنّ بناء المسجد الأقصى كان في عهد آدم عليه السلام، أو في عهد أولاده: قال ابن حجر: "فقد روينا أنّ أوّل من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أنْ يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس".
* * *
وقال ابن حجر: وقد وجدت ما يشهد ويؤيّد قول من قال: إن آدم هو الذي أسس كلاً من المسجدين، فذكر ابن هشام في كتاب "التيجان": "أنّ آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس، وأن يبنيه، فبناه ونسك فيه".
قلت: وهذا تفسير ما جاء في حديث أبي ذر الذي رويناه في بداية الكلام "قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة".
وبهذا يتحدّد زمن بناء المسجد الأقصى، وأنّه بُنِي قبل داود وسليمان عليهما السلام بآلاف السنين.
وحلّ الإشكال الذي وُجِد من تعارض مفهوم الحديثيْن: حديث أبي ذر، الذي رواه البخاري ومسلم، وحديث النسائي الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص (إن صحّ متنه) أنّ الإشارة في حديث الصحيحين إلى أوّل البناء، ووضع أساس المسجد وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة. وليس داود أو سليمان أول من بنيا بيتاً في الأقصى، فهناك بيت قبلهما فأول من بنى الكعبة آدم، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائز أنْ يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس بعد ذلك بأربعين سنة...
وأنّ سليمان بنى مسجداً للعبادة أي مسجد، وليس هو المسجد الأقصى، وإنْ كان له في الأقصى عمل ربما زاد فيه ووسّعه وهيّأه للعبادة، ويدلّ على ذلك الرواية الموقوفة على حذيفة بن اليمان التي رواها الحاكم، حيث قال في الخبر "إنّ داود أراد أنْ يزيد في البيت المقدس..".
وربما كان المقصود بما جاء في الحديث الذي رواه النسائي "لما بنى سليمان بيت المقدس" أنّه أعده وهيّأه للعبادة، ونظّفه وطهّره، ورمّم سقفه وجدرانه، فلعلّ سكان بيت المقدس قبل داود وسليمان كانوا من غير الموحّدين، فلم يعتنوا بالمسجد، وطال الزمان على بنائه السابق، وأثّرت فيه الأمطار وتراكمت فيه الأتربة والأوساخ، فكان محتاجاً إلى من يهيئه للعبادة، بإدخال الإصلاحات فيه. وملخّص ما يقال في قصة بناء المسجد الأقصى:
أنّ بقعة المسجد الأقصى، بقيت على مرّ العصور والدهور هي البقعة التي أوحى الله إلى الأنبياء باختيارها للعبادة منذ آدم عليه السلام، ومن جاء بعده من الأنبياء والأولياء والعباد، وأنّ أساس البناء الأول ثابت في هذه البقعة المباركة، وكلّ من تتابع على إعمارٍ، أو بناءٍ، أو إصلاحٍ، أو تطهيرٍ لهذه البقعة، إنّما يفعل ذلك على الأساس القديم.
وقداسة هذه البقعة (المسجد الأقصى) لم تكنْ لنبيّ من الأنبياء، ولا أمة من الأمم، فقد اختارها الله منذ خلق الخلق لعبادته، أنْ تكون معبداً للمؤمنين الموحّدين. ويدلّ على قِدَم التقديس ما جاء في حديث أبي ذر، أنّها ثاني موضعٍ اختاره الله للعبادة. وقول الله تعالى في قصة إبراهيم وهجرته إلى فلسطين "ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين" ومعنى هذا أنّ البركة كانت فيها قبل إبراهيم عليه السلام. كما أنّ قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" .. يدلّ على أنّ الله باركه منذ الأزل، وأنّ الله تعالى أسرى بعبده إليه ليجدد تذكير الناس ببركته وتقديسه.